مصطَبة الآلهة السومرية: هل تستقر في أبو ظبي بعد لندن؟
(يحلم كريستو بجعل مصطَبته في أبو ظبي أكبر نصب في العالم)
لأكثر من ثلاثة أشهر ظل نصب عملاق مؤلف من 7506 براميل نفط طافيا وسط بحيرة سربنتين في متنزه هايد بارك الشهير في قلب العاصمة البريطانية لندن.
هذا النصب العملاق منحه الفنان البيئي، كريستو، لمدينة لندن وأطلق عليه اسم "مصطبة لندن" مستخدما المفردة العربية "المصطبة"، ومستلهما هذا الشكل الهندسي الذي ظهر في الحضارة السومرية في وادي الرافدين (العراق الحالي) والحضارة الفرعونية في مصر قبل آلاف السنوات.
يقول كريستو في حوار مع القناة الرابعة في بي بي سي إنه استلهم "هذا الشكل الهندسي القديم جدا، وهو أقدم بكثير من الأهرامات، وقد اكتشفه علماء الآثار في بلاد ما بين النهرين".
ويحيل كريستو هنا إلى المصاطب التي كانت تقام عليها المعابد السومرية القديمة أو بيوت الآلهة، ويحلو للبعض أن يسميها مصاطب الآلهة، وهي مختلفة في وظيفتها عن المصاطب الفرعونية التي كانت تستخدم كمقابر إلى جانب الأهرامات.
والمصطبة السومرية هي بناء صلد له قاعدة مستطيلة تتجه زواياها نحو الاتجاهات الأربعة الرئيسية، تُبنى عادة من اللبن الطيني المرتب وتُحاط وتُغلف جدرانها بالآجر المفخور، وقد تطورت لاحقا إلى الزقورات (المعابد المدرّجة التي كانت تبنى لعبادة آلهة بلاد ما بين النهرين) لتصبح قاعدتها التي يرتفع فوق طبقاتها عادة المعبد المخصص لإله معين، كما هي الحال في زقورة أور الشهيرة.
من أبو ظبي إلى لندن
(يرفض كريستو تلقي أي منح ويحرص على تمويل نصبه بنفسه من بيع أعماله السابقة)
يقول كريستو إنه سُحر بشكل المصطبة منذ منتصف الستينيات وظل حلمه بتحويله إلى نصب ضخم يرافقه لعقود طويلة.
ففي عام 1967 حاول كريستو وشريكته جان كلود بناء مصطبة طافية في بحيرة ميشيغان لكن مشروعه لم ير النور.
وفي عام 1975، تمكنا من بناء مصطبة أخرى في تكساس، كما استخدما 1000 برميل نفط في بناء نصب مصغر للمصطبة في سان بول دو فونس جنوبي فرنسا.
في عام 1979 سافر كريستو وجان كلود إلى أبو ظبي بعد أن نجح صديقهما، لوي دو غيرينغو، وزير الخارجية الفرنسية في زمن الرئيس، فاليري جيسكار ديستان، بتنظيم زيارة لهما إلى أبو ظبي لتنفيذ مشروعهما الذي اقترحا تنفيذه هناك قبل عامين.
ومنذ ذلك التاريخ، زار الفنانان أبو ظبي عدة مرات سعيا لإنجاز مصطبتهما هناك، حيث اقترحا مكانا لها قرب واحة ليوا في صحراء المنطقة الغربية على بعد 160 كيلومترا إلى الجنوب من أبو ظبي.
- 3 كيلومترات من القماش الأرجواني تغطي قرية "سولتسانو" الإيطالية
- ما زال "نزيف الآثار" متواصلا في العراق
خطط الفنانان لأن تكون مصطبتهما أكبر نصب في العالم، بارتفاع 150 مترا وبمساحة تبلغ أبعاد قاعدتها 300 متر طولا و225 مترا عرضا، أما سقفها فيكون مستويا بطول 126 مترا وعرض 225.
وسيُستخدم لبناء النصب 410 آلاف برميل بألوان مختلفة تُرتب بطريقة أقرب إلى الفسيفساء لتحاكي العمارة الإسلامية، وتكون في حوار مع البيئة المحيطة بما تقدمه من انعكاسات لتحولات الضوء تحت شمس الشرق الساطعة.
ويصف كريستو "المصطبة"، باستخدام ال التعريف لمصطبة ابو ظبي لتفريقها عن المصاطب الأخرى التي نفذها، بأنها ستكون أكبر بخمسين مرة من حجم مصطبة لندن لتشكل بذلك أكبر نصب في التاريخ.
مصطبة لندن
(أحد التخطيطات الأولية لنصب المصطبة عرض في معرض استعادي لكريستو وجان كلود في معارض سربنتين)
ومنحت العاصمة البريطانية كريستو وجان كلود فرصة تحقيق نسخة من حلمهما، الذي استغرق أكثر من 10 آلاف ساعة عمل و 51 عاما كي يرى النور، في صورة نصب ضخم لهذا الشكل التاريخي القديم عائما في بحيرة في متنزه هايد بارك الشهير في قلبها.
وبدأ العمل في تنفيذ النصب في الثالث من أبريل /نيسان الماضي ليفتتح في 18 يونيو/حزيران ويظل قائما هناك لأكثر من ثلاثة أشهر.
بُني العمل باستخدام 7,506 براميل نفط وقدر حجم الفولاذ المستخدم في انجازه 150 ألف طن.
وقد ربطت البراميل في خطوط مستقيمة رتبت بشكل متدرج فوق بعضها.
وبعد اكتمال بناء هيكل النصب ورصف البراميل، سُحب النصب الذي يصل مجمل وزنه إلى 600 ألف طن بحبال ضخمة إلى موقعه ليطفو وسط البحيرة مثبتا بعدد من المراسي.
ووصلت كلفة مجمل المشروع من بنائه إلى تفكيكه 3 ملايين جنيه استرليني، قام الفنان نفسه بتمويلها، إذ يرفض تلقي أي منح أو تمويل من جهات أخرى لأعماله.
وقد ترافق العمل مع معرض استعادي لأعمال كريستو وجان كلود في صالات معارض سربنتين، قُدمت فيه نماذج لرسومهما وأعمالهما وصور فوتغرافية لها على مدى 60 عاما.
نصب ضخمة
(استغرق التفاوض لإنجاز "بوابات نيويورك" 26 عاما)
عُرف كريستو وجان كلود بولعهما بإنجاز نصب ضخمة في أماكن طبيعية أو فضاءات مدن كبيرة في سياق ما يعرف بالفن البيئي.
وقد نجحا في مسيرتهما الفنية الممتدة على مدى 57 عاما في إنجاز 23 مشروعا ورُفض لهما 47 مشروعا.
ولا يقتصر عملهما على رسم تخطيطات نُصبهما وتنفيذ أعمالهما الفنية بل تستدعي مشاريعهما الضخمة عملا طويلا في التفاوض مع الجهات الحكومية والحصول على موافقات تنفيذها في أماكن عامة، فضلا عن جمع التمويل اللازم لتنفيذ هذه المشاريع وإزالتها لاحقا وإعادة تدوير المواد المستخدمة للحفاظ على البيئة.
وغالبا ما تمتد فترة التفاوض لإنجاز هذه المشاريع عقودا طويلة، على سبيل المثال لا الحصر استغرق تفاوضهما لإنجاز عملهما "بوابات نيويورك" 26 عاما حتى حصولهما على الموافقات اللازمة لنصب أكثر من 700 بوابة برتقالية اللون بطول 5 أمتار من القماش في حديقة سنترال بارك في قلب مدينة نيويورك في عام 2005.
ومشروعهما الآخر وهو تغطية مبنى الرايخستاغ (البرلمان الألماني) في برلين، إذ ظلا 24 عاما يحاولان إقناع السلطات الألمانية بتنفيذه، حتى نجحا في عام 1995 في تغليف المبنى بنحو مليون قدم من غطاء فضي غطى مجمل المبنى التاريخي.
وكذلك الحال مع عملهما في تغليف جسر بون نُف "الجسر الجديد" على نهر السين في باريس، الذي اقترحاه في عام 1975 وتمكنا من تنفيذه في عام 1985، وظل العمل معروضا لمدة أسبوعين فقط.
(غلف الفنانان جسر بون نُف على نهر السين في باريس عام 1985)
وكما سبق أن أحاطا 11 من جزر خليج بيسكاني في ولاية فلوريدا الأمريكية بنسيج زهري متموج غطى سطح الماء المحيط بالجزر واتصل بِكل جزيرة منها. واستخدما في العمل 550 ألف متر مربع من النسيج الملون امتد على مساحة نحو 11 كيلومترا.
ومدا ممرات برتقالية في عملهما "الأرصفة العائمة" على امتداد 100 ألف متر مربع نصبت مباشرة على سطح بحيرة أيزو في إيطاليا 2016.
(مدا ممرات برتقالية في عملهما "الأرصفة العائمة" على امتداد 100 ألف متر مربع على سطح بحيرة أيزو في إيطاليا)
وفي عمل آخر، نصبا 3100 مظلة عملاقة، طول الواحدة منها 6 أمتار وعرضها 8 أمتار، بطريقة متوازية في موقعين: الأول قرب طوكيو في اليابان والثاني في لوس انجلس في الولايات المتحدة وأُنجز المشروع في الفترة بين 1984 و 1991.
وفي عملهما ، ستار الوادي، أسدلا ستارة برتقالية اللون طولها 381 مترا وارتفاعها 11 مترا على وادي كولرادو.
كما مدا سياجا بكاليفورنيا غطى بنسيج من النايلون على امتداد 40 كيلومترا من شمالي سان فرانسيسكو إلى المحيط الهادئ.
معا إلى الأبد
شكل كريستو، 83 عاما، البلغاري المولد والمقيم حاليا في الولايات المتحدة، ثنائيا فنيا ناجحا مع زوجته الفرنسية جان كلود.
واستخدم كريستو وجان كلود اسما مشتركا لتوقيع أعمالهما منذ عام 1994، وظل كريستو يستخدم اسم شريكته معه حتى بعد رحيلها في عام 2009.
وكان كريستو قد سعى في الخمسينيات إلى الهروب من بلده بلغاريا الخاضع للحكم الشيوعي إلى الغرب، فانتقل إلى براغ في تشيكوسلوفاكيا في عام 1956، وتمكن عبرها من الهرب إلى فيينا عام 1957 ومنها إلى باريس عام 1958.
(ظل كريستو يستخدم اسم شريكته معه حتى بعد رحيلها في عام 2009)
وفي باريس التقى بجان كلود، المولودة في الدار البيضاء بنفس يوم ولادته وهو 13/6/1935، وهي ابنة جنرال في الجيش الفرنسي عمل لفترة حاكما لتونس، وقد ارتبط بها ليعملا معا في مشاريعهما الفنية حتى وفاتها عام 2009.
يرجع ولع كريستو باستخدام العلب المعدنية وبراميل النفط في أعماله الفنية إلى عام 1958 عندما قدم عمله "العلب المغلفة"، ثم انتقل إلى استخدام البراميل الصغيرة مادة لأعماله النحتية.
وقد أثار عمل كريستو وجان كلود "الستارة الحديدية" في عام 1962 ضجة كبيرة. إذ قام، وهو الفنان المهاجر حينها، بمساعدة زوجته بإغلاق شارع في مدينة باريس ببراميل النفط من دون أخذ موافقات رسمية تعبيرا عن الاحتجاج على بناء جدار برلين للفصل بين الألمانيتين حينها.
عودة الحلم
تُفكك لندن اليوم مصطبة كريستو التي ظلت شامخة وسطها لأكثر من ثلاثة أشهر، وسيعاد تدوير الفولاذ المستخدم في الهيكل والبراميل كخام مصهور، وسوف يعاد استخدام المواد الأخرى داخل المتنزه ببعد تدويرها بشكل يحافظ على البيئة.
بيد أن كريستو لن يكلَّ عن متابعة حلمه في أن يرى مصطبته شامخة في بيئتها الأصلية في الشرق.
إذ لم ينقطع يوما عن الحلم بذلك والعمل على إنجازه، ففي الفترة بين عامي 2007 إلى 2008 تعاقد كريستو وجان كلود مع عدد من أساتذة الهندسة في أربع مؤسسات أكاديمية هي معهد التكنولوجيا الفيدرالي السويسري بزوريخ وجامعة ألينوي في أربا شامبين الأمريكية وجامعة كيمبردج البريطانية وجامعة هوسي اليابانية لتجهيز دراسات هيكل النصب، وقد عملت الفرق في الجامعات الأربع بشكل منفصل عن بعضها البعض.
(استخدم كريستو وجان كلود 7506 برميل نفط لإنجاز النصب الطافي وسط بحيرة سربنتين في متنزه هايد بارك بلندن)
وكلف الفنان شركة "شلايتش بيرغمان" للإنشاءات الهندسية في شتوتغارت، لتحليل تقارير الفرق الأربعة، وقد توصلت الشركة إلى أن مقترح فريق جامعة هوسي اليابانية كان الأكثر عملية وابتكارا.
وظل كريستو يردد في تصريحاته الصحفية بأن حلمه أن يتجسد عمله في بناء المصطبة بشكلها الأكبر قائلا "أنا الآن في الثالثة والثمانين من العمر، وآمل أن أنفذ هذا المشروع قبل أن أموت، وأتمنى أن تحاول أبو ظبي تنفيذه".
قد يرى البعض في استخدام براميل النفط في إعادة بناء أحد اشكال البناء في المعابد السومرية دلالة تحمل قدرا من التأويل السياسي وربما هجاءً للعصر الذي نعيش فيه، بيد أن كريستو يصر على أن عمله مجرد شكل وبعيد عن أي تأويل سياسي مباشر، لكنه في الوقت نفسه منفتح على أي تأويل "فكل التأويلات مقبولة"، حسب تعبيره.
لقد ودعت لندن مصطبتها، ويسعى كريستو إلى إعادة بناء حلمه هذا لأكبر نصب في العالم في أبو ظبي، بيد أن المفارقة هنا تكمن في أن البلدين اللذين شهدا ولادة هذا النمط من الأبنية التي الهمت الفنان البيئي العالمي، العراق ومصر، ظلا بعيدين عن دائرة التفكير أو السعي لوضع هذا العمل الفني في حوار مع مصادره الأصلية في المصاطب السومرية والفرعونية على أراضيهما.
0 تعليق